سلسلة مواقف يوم القيامة ... الدرس الرابع عشر ( الحساب ج 4 )

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله واهب الحياة وسالبها مقيم الأجساد بالأرواح وقابضها
خلقنا من تراب واليه يصيرنا ومن التراب عندما يشاء يقيمنا ويبعثنا
والصلاة والسلام على اشرف المرسلين نبي الأولين والآخرين
وسيد الخلق أجمعين
نبي الرحمة
صاحب المقام المحمود
نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين عدد ما ذكره الذاكرون
وغفل عنه الغافلون
وبعد ......

***مع سلسلة مواقف يوم القيامة***

الدرس الرابع عشر

الحســـــاب (4)

حديث : لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع ..

3592
(حسن صحيح) عن أبي بردة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه وعن
علمه ما عمل به وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن جسمه فيما أبلاه .
[ رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح ]

3593 (صحيح لغيره ) وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال عن
عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه
وعن علمه ماذا عمل فيه . [ رواه البزار والطبراني بإسناد صحيح واللفظ له ]

يدل هذا الحديث على انه لن تتحرك قدمك يوم القيامة حتى تسأل عن العمر والعلم والمال والصحة .

أولاً / عمره فيما أفناه :-

قال تعالى :-

{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ }المؤمنون115
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }الذاريات56

فالله
سبحانه وتعالى لم يخلقنا الا لغاية سامية ، هي عبادته وحده لا شريك له ،
ولم يخلقنا للعب وجمع الأموال ، والتكاثر والتفاخر ، واهدار الوقت فيما لا
يرضي الله عز وجل وذلك لان العمر قصير واللحظات محسوبة عليك والواجبات
اكثر من الاوقات واللحظة التي تمضي لن تعود مرة اخري ولن يعرف الانسان
قيمتها الا يوم الحساب .

وفي
الحديث الذي رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم لرجل وهو يعظه : (( اغتنم خمسا قبل خمس : شبابك قبل هرمك ،
وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك ))
. [ رواه الحاكم وقال : صحيح على شرطهما ، وقال شارح الجامع : اسناده حسن
] .

هذه الموعظة التي وعظها رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل والتي جمعت فاوعت ، وبينت سبل النجاة يوم القيامة .
ولهذا كان لابد ان يقف الشباب على حقيقة هذه الحياة الدنيا حتى لا يغتر
بها فينشغل عن الهدف الاسمى وهو طاعة الله عز وجل ولنا في السلف الصالح
أسوة حسنة { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ }ق37

-
هذا هو علي رضي الله عنه يقول : (( من أمضى يومه في غير حق قضاه ، أو فرض
أدَّاه أو مجد بناه أو حمد حصَّله ،أو علم اقتبسه فقد عقَّ يومه وظلم نفسه
)) .

فحذاري ان تعق يومك وتظلم نفسك فانت احوج الى كل لحظة من عمرك .

ولله ذر القائل : ليس المصاب من فارق الأحباب .... ان المصاب من فقد الثواب
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت )) . رواه الترمذي وقال حديث حسن .

يقول الأصمعي رضي الله تعالى عنه ، سمعت شاباً يقول هذه الأبيات :

ألا أيها المقصود في كل وجة شكوت اليك الضر فارحم شكايتي
ألا يا رجائي أنت تكشف كربتي فهبلي ذنوبي كلها واقض حاجتي
أتيت بأعمال قبــاح رديئة وما في الورى عبد جنى كجنايتي
أتحرقني بالنار يا غاية المنى فأين رجائي ثم أين مخافتي ؟

فهبلي ذنوبي : أي تجاوز عنها بكرمك .

ثم
سقط مغشيا عليه .. فدنوت منه .. فاذا هو زين العابدين ابن الحسين بن علي
رضي الله تعالى عنهم اجمعين .. فرفعت راسه في حجري وبكيت .. فقطرت دمعة
على خده فقال : من هذا الذي يهجم علينا ؟ فقلت : عبيدك الأصمعي .. سيدي ..
ما هذا البكاء والنحيب وانت من اهل بيت الحبيب صلوات الله وسلامه عليه ..
والله تعالى يقول : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً }الأحزاب33 ..
فقال: هيهات هيهات .. ان الله تعالى خلق الجنة لمن اطاعه ولو كان عبدا
حبشيا وخلق النار لمن عصاه ولو كان حرا قرشيا .. ثم قال : أليس الله تعالى
يقول :
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ }المؤمنون101
{فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }المؤمنون102..
أليس الرسول صلوات الله وسلامه عليه يقول : (( اني لاخوفكم من الله واشدكم
له خشية )) . [حديث حسن] ثم قال وهو يبكي : انسيت يا هذا ان النبي صلى
الله عليه وسلم قال لابنته فاطمة رضي الله تعالى عنها : (( اعملي فاني لا
اغني عنك من الله شيئا )) . [ اخرجه البخاري ومسلم ] .

اذا علينا ان نستغل هذا العمر الذي منحنا الله اياه في العمل لدار البقاء والخلود ، وكما قال علي رضي الله تعالى عنه وارضاه :

النفسُ تبكي على الدنيا وقد علمت
أن السعادة فيها ترك مــا فيها
لا دارٌ للمــرءِ بعد الموت يسكُنها
إلا التي كانَ قبل المـــوتِ بانيها
فإن بناها بخير طــــاب مسكنُه
وإن بناها بشر خــــاب بانيها

-
وكان يزيد الرقاشي رحمه الله تعالى يعاتب نفسه ويقول لها : ويحك يا نفس ..
ما الذي يصلي عنك بعد الموت .. ما الذي يصوم عنك بعد الموت .. وهكذا ثم
يقول : أيها الناس .. الا تبكون وتنتحبون على انفسكم بقية عمركم .. فمن
كان الموت موعده ، والقبر بيته ، والثرى فراشه ، والدود مؤنسه ، وخوف
الفزع الأكبر يزعجه ، كيف يلتذ بمنام ؟ .. ثم يخر مغشيا عليه .
نعم لن تجد من يصلي يصوم عنك بعد انقضاء عمرك ، فاذكر ذلك جيداً ولا تتخذ الدنيا وطناً لك .

_
روي ان سفيان الثوري رضي الله تعالى عنه قال لاحد اصدقائه هلم بنا الى
المؤدبة – يعني رابعة العدوية – يقول جعفر بن سليمان رفيق سفيان في هذه
الزيارة : فلما دخلنا علها رفع سفيان يديه وقال : اللهم اني اسالك السلامة
.. فما كان من رابعة حين سمعت هذا الدعاء الا ان بكت .. وتعجب سفيان من
بكائها فسالها : ما يبكيك يا رابعة ؟ فقالت : انت السبب .. لقد عرضتني
للبكاء .. اما علمت يا سفيان ان السلامة من الدنيا ترك ما فيها .. فكيف
وانت متلطخ بها ؟ قال سفيان : واحزناه .. فقالت رابعة لا تكذب .. قل واقلة
حزناه .. لو كنت محزونا لما شغلتك الدنيا يا سفيان .. ثم قالت تعظه : يا
سفيان .. انما انت ايام معدودة .. فاذا ذهب يوم ذهب بعضك ، ويوشك اذا ذهب
البعض ان يذهب الكل وانت تعلم فاعمل ...

-
ولذا كان الحسن رحمه اللـه يقول : " ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وينادى
بلسان الحال ويقول يا ابن آدم أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد فاغتنمنى فإنى
لا أعود إلى يوم القيامة .
وكان عبد اللـه بن مسعود رضى اللـه عنه يقول : " واللـه ما ندمت على شئ كندمى على يوم طلعت شمسه نقص فيه أجلى ولم يزد فيه عملى ".

فاغتنم اخا الاسلام هذا العمر القصير مهما طال ، و تزود { فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى }البقرة197.

واعمل :

واعمل لدار ٍغداً رضوانُ خازنها *** والجار احمد والرحمن ناشيها
قصورها ذهب والمسك طينتها *** والزعفران حشيشٌ نابتٌ فيهــا
أنهارها لبنٌ محضٌ ومن عسل *** والخمر يجري رحيقاً في مجاريها
والطير تجري على الأغصان عاكفةً *** تسبحُ الله جهـراً في مغانيهـا
من يشتري الدار في الفردوس يعمرها *** بركعةٍ في ظلام الليــل يحييها

ثانياً / علمه ما عمل به :-

ونحن في حديثنا هنا عن العلم نقصد به العلوم الشرعية .

قال تعالى :-

{ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً }طه114
{شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ
وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }آل عمران18

شهد
الله أنه المتفرد بالإلهية, وقَرَنَ شهادته بشهادة الملائكة وأهل العلم,
على أجلِّ مشهود عليه, وهو توحيده تعالى وقيامه بالعدل, لا إله إلا هو
العزيز الذي لا يمتنع عليه شيء أراده, الحكيم في أقواله وأفعاله .

{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء }فاطر28

إ

نما يخشى اللهَ ويتقي عقابه بطاعته واجتناب معصيته العلماءُ به سبحانه, وبصفاته, وبشرعه, وقدرته على كل شيء,

{ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ }المجادلة11

_
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة وإن الملائكة
لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع وإن العالم ليستغفر له من في
السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء وفضل العالم على العابد كفضل
القمر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء إن الأنبياء لم يورثوا
دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر . [ رواه أبو
داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والبيهقي ] .

_
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً ومتعلماً
[رواه الترمذي وابن ماجه والبيهقي وقال الترمذي حديث حسن]

قال
النووي المراد بالعلم الذي وردت به النصوص في فضله والثواب عليه ورفعة
اهله وكونهم ورثة الانبياء انما هو علم الشريعة عقيدة وعملا وليس علم ما
يتعلق بالدنيا كالحساب والهندسة وما اشبه ذلك ، المراد بالعلم العلم
الشرعي الذي جاءت به الشرائع هذا هو العلم الذي يثني على من ادركه وعلى من
علمه وتعلمه .
ولقد جعل الله تعالى الفقه في دين الله معادلا للجهاد في سبيل الله ، بل
اولى منه عند بعض العلماء ، لانه لا يمكن ان يجاهد المجاهد ولا ان يصلي
المصلي ولا ان يزكي المزكي ولا ان يصوم الصائم ولا ان يحج الحاج ولا ان
يعتمر المعتمر ، الا بالعلم فالعلم هو اصل كل شئ .

وعن معاوية رضي الله عنه ، قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من يرد الله فيه خيرا يفقه في الدين )) .
فمن الناس من يكون الجهاد في حقه افضل ومن الناس من يكون طلب العلم في حقه
افضل فمن كان قوي البنية شجاع وليس عنده القدرة على الحفظ والفهم فالجهاد
في حقه افضل ومن كان بالعكس فطلب العلم في حقه افضل ، وان تساوى الامران
فبعض العلماء رجح طلب العلم ، لانه اصل ، ولانه ينتفع به الناس القاصي
والداني وينتفع به صاحبه في حياته وبعد مماته كما جاء في الحديث الشريف :

_ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له . [ رواه مسلم وغيره ].

ولا بد لنا هنا ان ننوه الى ان العلم الشرعي ينقسم الى قسمين :-

قسم فرض عين يجب على كل انسان ان يتعلمه .

كأن
يتعلم ما يحتاج اليه في امور دينه الواجبة مثال ذلك .. ان يتعلم ما يتعلق
بتوحيد الله وبيان ما ينافيه ويناقضه من الشرك لانه مفروض على كل واحد منا
.. كذلك يجب عليه ان يتعلم الفرائض واحكامها كالصلاة وما يلزمها من طهارة
وغيرها حتى يعبد الله على بصيرة .. وهكذا .

وقسم اذا ما قام بالعلم من يكفي فيكون للباقين سنه .

والثاني
فرض كفاية وفرض الكفاية يستحب لمن زاد على من تقوم به الكفاية ان يتعلم
ليحفظ شريعة الله ويهدي الله به عباده وينتفع الناس به.

فاعلم
اخا الاسلام ان الله عز وجل سوف يسالك عن علمك الذي تعلمته ماذا صنعت به
؟؟ واياك ان تكون من الذين تعلموا العلم ولم يعملوا به فينطبق عليك قول
الله عز وجل : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا
لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ }الصف2 {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ
اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ }الصف3
وقال تعالى :-
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }البقرة44

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(( من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله تعالى لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة ((يعني ريحها
رواه أبو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح على شرط البخاري ومسلم .

__ وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(( من تعلم العلم ليباهي به العلماء ويماري به السفهاء ويصرف به وجوه الناس أدخله الله جهنم (( رواه ابن ماجه..


وكان على بن أبى طالب يقول : (( يا حملة العلم اعملوا به فإن العالم من
علم ثم عمل ، ووافق علمه عمله ، وسيأتى أقوام يحملون العلم لا يجاوز
تراقيهم يخالف علمهم عملهم ، وتخالف سريرتهم علانيتهم يقعدون جلفاء يباهى
بعضهم بعضاً ، حتى إن أحدهم ليغضب على جليسه إن تركه ، وجلس إلى غيره ،
أولئك لا ترفع أعمالهم تلك إلى اللـه عز وجل )) .

فحذاري اخا الاسلام ان تكتم علمك فيلجمك الله بلجام من نار
وحذاري ان تعلم ولا تعمل .. اللهم انا نسالك علماً نافعاً ولساناً ذاكراً
وبدناً على البلاء صابراً .. اللهم انا نسالك الإخلاص في القول والعمل .

ثالثاً / عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه :-

قال تعالى :-

{الْمَالُ
وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ
الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً }الكهف46

التفسير الميسر:-

الأموال والأولاد جَمال وقوة في هذه الدنيا الفانية، والأعمال الصالحة
(وبخاصة التسبيحُ والتحميد والتكبير والتهليل) أفضل أجرًا عند ربك من
المال والبنين، وهذه الأعمال الصالحة أفضل ما يرجو الإنسان من الثواب عند
ربه، فينال بها في الآخرة ما كان يأمُله في الدنيا.

لو أمعنا النظر في الآية الكريمة لوجدنا أن الله عز وجل قدم المال على الأولاد ، وجعلهما زينة في الحياة الدنيا .
فكل شئ سوف تسأل عنه مره واحدة ، إلا المال سوف تأل عنه سؤالين :
من أين اكتسبته ؟؟ وفيما أنفقته ؟؟ هل يا ترى اعددت جواباًً لله عز وجل ؟؟
فالمال اخا الاسلام لا يقل اهمية عن العمر والعلم ومن المال ماهو نقمة
ومنه ماهو نعمة ، لانك بالمال باستطاعتك ان تعمل الخير الكثير فتبني
المساجد وتتصدق وتكفل الأيتام وتعالج مريض وتزوج أعزب. .. من قبل ان يمسك
الفقر ، فكم من اناس كانوا يملكون واصبحوا لا يملكون ، تلك هي الحياة
الدنيا .. ان طلبتها تركتك .. وان تركتها طلبتك.

هي الدنيا تقول بملء فيها حذار من بطشي و فتكي
فلا يغرركمو مني ابتســــام فقولي مضحك والفعل مبكي

فاذا
كنت غنيا ففي استطاعتك الآن ان تتصدق ولتعلم انه لا ينقص مال من صدقه كما
جاء في الحديث الشريف : عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه أنه سمع رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثا فاحفظوه :
قال : ما نقص مال عبد من صدقة ، ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده
الله عزا ، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر أو كلمة
نحوها وأحدثكم حديثا فاحفظوه: إنما الدنيا لأربعة نفر عبد رزقه الله مالا
وعلما فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعلم لله فيه حقا فهذا بأفضل
المنازل وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا فهو صادق النية يقول لو أن لي
مالا لعملت بعمل فلان فهو بنيته فأجرهما سواء وعبد رزقه الله مالا ولم
يرزقه علما يخبط في ماله بغير علم ولا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ولا
يعلم لله فيه حقا فهذا بأخبث المنازل وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما
فهو يقول لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته فوزرهما سواء ..
[رواه أحمد والترمذي واللفظ له وقال حديث حسن صحيح]

اذاً تصدق ليوم لا ينفع مال ولا بنون وفي ذلك يقول الحكيم :-

قـــــــدم لنفســــك خيراً وانتَ مالـــــِك مـــــالَك
من قبــــــل تصبح فرداً ولون حالـــــَك حالــــِك
ولست والله تــــــــدري أي المســـالك سالـــــك
امــــا لجنـــــــــة عدن أو في المهــــالك هالك

وحسبك قول الله تعالى :-

{
وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ
هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَّحِيمٌ }المزمل20
{مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ }النحل96
{وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً }الإسراء29

وقد قيل لحكيم : لم تجمع المال وانت حكيم ؟ فقال : لأصون به العرض ، وأؤدي به الفرض ، وأستغني به عن القرض .

وحذاري اخا الاسلام ان تلقي بلقمة في جوفك من حرام او تغذي اولادك على حرام
فتكون سبباً في عدم استجابة الدعاء .

_ روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : تليت هذه الآية عند رسول الله صلى
الله عليه وسلم : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ
حَلاَلاً طَيِّباً } . فقام سعد ابن ابي وقاص رضي الله عنه ، فقال :
يارسول الله ادعُ الله ان يجعلني مستجاب الدعوة ، فقال له النبي صلى الله
عليه وسلم : يا سعد اطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة ، والذي نفس محمد بيده :
ان العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه عمل أربعين يوماً
وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار اولى به . . [رواه الطبراني في الصغير] .

ولنا في السلف الصالح أسوة حسنه ، كانوا يتحرون الحلال في مطعمهم وفي غاية
الخوف من اكل الحرام حتى قال بعضهم : ( لو قمت في العبادة قيام السارية ما
نفعك ذلك حتى تنظر فيما دخل بطنك ) .

_ وعن عبد الله بن رضي الله عنهما قال : اشتريت ابلاً ورجعتها الى الحمى
فلما سمنت قال : فدخل عمر رضوان الله عليه السوق ، فراى ابلاً سُمناً فقال
: لمن هذه الابل السمينة ؟ فقيل : لعبد الله بن عمر ، فجعل يقول : عبد
الله بن عمر ؟؟ بخ بخ .. ابن امير المؤمنين .. قال : فجعلت اسعى فقلت :
مالك يا امير المؤمنين ؟ قال : ما هذه الابل ؟ قلت : ابل اشتريتها وبعثت
بها الى الحمى ، ابتغي ما يبتغي المسلمون ، قال : يقال : ارعوا ابل ابن
امير المؤمنين ... اسقوا ابل ابن امير المؤمنين ... يا عبد الله بن عمر :
اغدُ على راس مالك واجعل باقيه في بيت المال .
فعليك اخي في الله ان تقتدي بهذا النموذج من اصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم وان تحرص على كسب قوتك بطريق الحلال وان تصرفه في اوجه الخير
واعلم ان خير الصدقه ، صدقة تتصدق بها على عيالك .

رابعاً / جسمه فيما أبلاه :-

قال تعالى :-

{وَلاَ
تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ
وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }الإسراء36
وقال تعالى :-
{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ }يس65

عَنْ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنّا عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه
وسلم فَضَحِكَ فَقَالَ: "هَلْ تَدْرُونَ مِمّ أَضْحَكُ؟(( قَالَ قُلْنَا:
اللّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "مِنْ مُخَاطَبَةِ الْعَبْدِ رَبّهُ.
يَقُولُ: يَا رَبّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظّلْمِ؟ قَالَ: يَقُولُ:
بَلَىَ. قَالَ: فَيَقُولُ: فَإِنّي لاَ أُجِيزُ عَلَىَ نَفْسِي إِلاّ
شَاهِداً مِنّي. قَالَ: فَيَقُولُ: كَفَىَ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ
شَهِيداً. وَبِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ شُهُوداً. قَالَ: فَيُخْتَمُ
عَلَىَ فِيهِ. فَيُقَالُ لأَرْكَانِهِ: انْطِقِي. قَالَ: فَتَنْطِقُ
بِأَعْمَالِهِ. قَالَ: ثُمّ يُخَلّىَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلاَمِ.
قَالَ: فَيَقُولُ: بُعْداً لَكُنّ وَسُحْقاً. فَعَنْكُنّ كُنْتُ
أُنَاضِلُ)). رواه مسلم

فعليك
اخا الاسلام ان تحافظ على جسمك وان تصرفها في طاعة الله عز وجل ، وذلك
بالحد من الإسراف في الطعام والشراب .. فقد قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : (( ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه .. بحسب ابن آدم لقيمات يقمن
صلبه .. فان كان لا محالة فاعلاً فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه
)) . [ اخرجه الترمذي وقال حديث حسن ] .
ومن خطبة اعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه :
(( إياكم والبطنة ، فانها مكسلة عن الصلاة ، ومفسدة للجسم ، ومؤدية الى
السقم ، وعليكم بالقصد في قوتكم ، فهو أبعد من السرف ، وأصح للبدن ، وأقوى
على العبادة ، وأن العبد لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه )) [ ذكره الشيخ
حمزة في المواهب ] .
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
بمنكبي فقال: (( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وكان ابن عمر رضي
الله عنهما يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر
المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك )) . [رواه البخاري] .
قوله : ( وخذ من صحتك ) أمره صلى الله عليه وسلم أن يغتنم أوقات الصحة
بالعمل الصالح فيها ، فإنه يعجز عن الصيام والقيام ونحوها لعلة تحصل من
المرض والكبر.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (فإن أحداً لم يعط بعد اليقين خيراً من العافية) صحيح أحمد.

عليك
اخي في الله ان تحافظ على هذا الجسم وان تصرفه في طاعة الله عز وجل واعلم
ان الله عز وجل يحب الشاب التائب وهو في قوته وريعان شبابه وبكامل صحته
وعافيته حتى يرحمك الله اذا ما ضعف جسمك وانحنى ظهرك .
فيا اخ الاسلام استعد للجواب عن هذه الأسئلة الأربعة .

هذا والله أعلم

أقول قولى هذا وأستغفر اللـه لى ولكم

ما كان من خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه برآء ، وما كان من توفيق فمن الله وحده لا شريك له
وصلي اللهم على محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه الى يوم الدين

** الى اللقاء في الدرس القادم بحوله تعالى **

أسال الله عز وجل ، أن يجعل عملنا هذا خالصاً لوجهه الكريم ، وأن يجعله
صدقة جارية عني ، وعن كل من نقله للإستفادة ، أو علمه ودرسّه ، اللهم
اجعله حجة لنا لا علينا – اللهم آمين .